كمال القصير يستكشف تناقضات الوعي العربي في كتاب جديد
في محاولة فكرية جريئة لفهم تعقيدات الوعي العربي المعاصر، يطرح المفكر المغربي الدكتور كمال القصير رؤى جديدة في كتابه الأخير "عن العطر والدولة.. مستقبل الوعي العربي" الصادر عن مركز مدارات للأبحاث والنشر في القاهرة.
منهجية فكرية غير تقليدية
يعتمد القصير في كتابه الذي يقع في 320 صفحة على منهجية تتجاوز المقاربات العقلانية التقليدية، حيث يقول: "إن لحظات اللّاعقلانية في التاريخ خزان كبير للتحوّلات، وهذا ما دعاني إلى أن أترك العقلانية مؤقتا".
يستكشف المؤلف العلاقة الرمزية بين العطر كرمز للسمو والجمال والنقاء، والدولة كإطار للسلطة والممارسة العملية. وبحسب القصير، فإن هذا التناقض الظاهري يكشف أسرار الحياة وقوانين الوعي، حيث يبلغ الإنسان قمة الإنجاز حين ينجح في إدارة التناقضات بين رغباته وقدرته على تجاوزها.
الجغرافيا أهم من التاريخ
يطرح الكتاب فكرة مركزية مفادها أن الحلول للمشكلات العربية الراهنة تكمن في الجغرافيا أكثر من التاريخ. ويؤكد القصير: "سوف نجد شكلنا السياسي في الجغرافيا أكثر مما سنعثر عليه في التاريخ، فالعودة إلى الجغرافيا تمهد لنا الطريق أكثر من رجوعنا إلى التاريخ".
هذه المقاربة تتماشى مع الرؤية الحديثة للتحليل الجيوسياسي، حيث تشرح الجغرافيا بدقة الحدود السابقة والأوضاع الاستراتيجية في العالم، وتنير الطريق للوجهة المستقبلية.
المشروع أقوى من الشرعية
يقدم القصير تحليلا عميقا لمفهوم الدولة، مؤكدا أن الدولة تتغذى من المشروع أكثر من الشرعية وحدها. فما إن تغيب المشاريع حتى تذوي الشرعية، ويصبح الاحتجاج الشعبي على غياب المشروع أقوى وأشد وقعا من الاحتجاج على فقدان الشرعية.
ويشير إلى أن الدول التاريخية الكبرى مثل المماليك والأيوبيين والعثمانيين كانوا أصحاب مشاريع كبرى، وهو ما مكنهم من تجاوز الجدل السطحي حول "الحق" و"الباطل" وتوجيه طاقة المجتمعات نحو الفعل والإنجاز.
الأمة كوعاء للحركة
يميز المؤلف بين مفهوم الدولة والأمة، موضحا أن مقصود الوحي وتركيزه الأكبر ليس منصبا على الدولة وشكل إدارة الحكم، بل على حركة الأمة باعتبارها "وعاء" للمسلمين وكتلة تتحرك في العالم.
"الأمة ليست نظرية أو مجموعة مبادئ، لكنها وعي مشترك يتحول إلى حركة أو شكل سياسي منظم، عندما يقوده إصلاحيون في لحظة زمنية كثيفة لمواجهة التحديات"، كما يوضح القصير.
قوة الخيال في صناعة التاريخ
يؤكد الكتاب على دور الخيال والشعور في تحريك التاريخ، حيث يصبح ما قد يبدو بعيد المنال من حيث المنطق ممكنا ومحركا للتاريخ عبر قوة الشعور والإيمان بفكرة. ويستشهد بتجربة الصين في تحويل الإهانة التاريخية إلى محفز لنهضتها.
مستقبل الوعي العربي
يختتم القصير كتابه بالتأكيد على أن مستقبل الوعي العربي يتوقف على الاعتراف بعمق التناقضات التي تشكل التجربة الإنسانية والسياسية، والقدرة على تحويلها إلى طاقة للتجديد والابتكار.
ويدعو إلى إحياء "قلق الوعي" أي البحث المستمر عن إجابات جديدة واستثمار طاقة الشك والأسئلة في دفع المجتمع نحو الأمام، مؤكدا أن النهضات تأتي من لحظات اللاعقلانية والخيال الجامح، لا من العقلانية وحدها.
في النهاية، يطرح الكتاب سؤالا جوهريا عن القدرة على صناعة وعي جديد يزاوج بين الرمز والواقع، بين الخيال السياسي والطموح الأخلاقي، لينحت مستقبل الوعي العربي على صورة أكثر واقعية وثراء.